مجلة التدريب
www.Moias.org
التفكير السريع والبطيء
التفكير السريع والبطيء
كتاب اليوم
أضيف بواسطة RAWAN

 

هذا الكتاب ليس مجرد شرح لكيف نفكر، بل هو كشف صريح عن الطريقة التي يخدعنا بها عقلنا كل يوم دون أن نشعر. دانيال كانيمان، الحاصل على جائزة نوبل، لا يتحدث من فراغ، بل من سنوات طويلة من التجارب والدراسات التي أثبتت أن الإنسان ليس عقلانيًا كما يحب أن يعتقد، وأن أغلب قراراته اليومية تُتخذ بشكل تلقائي، سريع، ومليء بالانحيازات.

 

يبدأ الكتاب بتقديم فكرتين أساسيتين يسميهما الكاتب “النظام الأول” و“النظام الثاني”. النظام الأول هو ذلك الصوت السريع داخلنا، الذي يحكم فورًا، يشعر، يقرر، ويعطي إجابات جاهزة دون مجهود. هو الذي يجعلك تعرف أن شخصًا ما غاضب من نظرة واحدة، أو تشعر بالخطر قبل أن تفكر فيه. أما النظام الثاني فهو العقل البطيء، التحليلي، الذي يحتاج تركيزًا ووقتًا، وهو المسؤول عن الحساب، التفكير المنطقي، ومراجعة القرارات. المشكلة – كما يوضح كانيمان – أن النظام الثاني لا يحب العمل، وغالبًا ما يترك القيادة للنظام الأول.

 

يعبّر عن ذلك بوضوح حين يقول:

“النظام الثاني كسول بطبيعته، ولا يتدخل إلا إذا أُجبر على ذلك.”

وهنا تبدأ معظم أخطائنا، لأننا نثق بأحكام سريعة لم تُراجع.

 

في الفصول التالية يشرح الكاتب كيف أن الجهد العقلي الحقيقي متعب، وأن الدماغ يحاول دائمًا توفير الطاقة. لذلك عندما نكون مرهقين أو متوترين أو مستعجلين، تزداد احتمالية اتخاذ قرارات خاطئة. العقل في هذه الحالة يختار أسهل إجابة، لا أصحها. ولهذا نصدق أحيانًا كلامًا غير دقيق فقط لأنه قيل بثقة، أو لأنه يبدو منطقيًا ظاهريًا.

 

ثم ينتقل الكتاب إلى واحدة من أخطر أفكار علم النفس، وهي أننا نكوّن قصصًا كاملة من معلومات ناقصة. الإنسان لا يحب الغموض، فيملأ الفراغ بسرعة. إذا رأيت جزءًا من الصورة، فإن عقلك يتصرف وكأنه رأى الصورة كلها. يختصر كانيمان هذه الفكرة في جملة أصبحت شهيرة جدًا:

“ما تراه هو كل ما هناك.”

نحن نحكم على الناس، الأحداث، والقرارات بناءً على ما هو ظاهر فقط، ونتجاهل ما لا نعرفه، ثم نتصرف بثقة وكأن حكمنا كامل.

 

بعد ذلك يدخل الكتاب بعمق في موضوع الانحيازات الذهنية، وهي أخطاء تفكير متكررة لا ننتبه لها. من أهمها انحياز التأكيد، حيث نبحث فقط عن المعلومات التي تدعم رأينا ونتجاهل كل ما يخالفه. ومنها أيضًا وهم الثقة، حيث يظن الإنسان أنه يفهم الواقع أكثر مما يفعل فعلًا. يقول كانيمان عبارة قوية جدًا:

“الثقة شعور، وليست دليلًا على الصحة.”

كثير من الناس يخلطون بين الثقة والمعرفة، فيصدقون أنفسهم فقط لأنهم يشعرون بالاطمئنان.

 

ومن أقوى فصول الكتاب تلك التي يتحدث فيها عن الخسارة والمكسب. يوضح أن الإنسان يتألم من الخسارة أكثر مما يفرح بالمكسب، حتى لو كانت القيم متساوية. هذا يفسر تمسكنا بأشياء تؤذينا، علاقات فاشلة، أو قرارات خاطئة، فقط لأن فكرة الخسارة مؤلمة. يكتب كانيمان:

“الخسائر تلوّح في أذهاننا أكبر من المكاسب.”

وهذا الانحياز يؤثر في المال، العمل، العلاقات، وحتى قرارات الحياة المصيرية.

 

ثم يناقش وهم الفهم، حيث يظن الإنسان بعد وقوع الأحداث أن الأمور كانت واضحة منذ البداية. نعيد ترتيب الماضي في أذهاننا وكأننا كنا نعرف النتيجة، مع أن الواقع كان مليئًا بالصدفة وعدم اليقين. يقول الكاتب:

“نحن نبالغ في فهمنا للماضي، ونقلل من تقدير دور الصدفة فيه.”

وهذا يجعلنا نكرر الأخطاء، لأننا نعتقد أننا تعلمنا الدرس بينما نحن في الحقيقة غيّرنا القصة فقط.

 

في الفصول الأخيرة يتحدث عن اتخاذ القرار، وكيف أن طريقة عرض المعلومة تؤثر علينا أكثر من المعلومة نفسها. نفس القرار قد يبدو جيدًا أو سيئًا فقط لأن الكلمات تغيّرت. عقولنا لا تحب الحساب البارد، بل تستجيب للشعور، للصياغة، وللانطباع الأول.

 

ويختم كانيمان كتابه برسالة واقعية جدًا: المعرفة بهذه الأخطاء لا تجعلنا مثاليين، لكنها تجعلنا أكثر تواضعًا في أحكامنا، وأكثر حذرًا في قراراتنا الكبيرة. الفكرة ليست أن نوقف التفكير السريع، بل أن نعرف متى لا نثق به. يقول في خاتمة مؤثرة:

“الفهم لا يمنع الخطأ، لكنه يمنع الغرور الذي يأتي معه.”

 

هذا الكتاب يترك القارئ وهو ينظر لنفسه ولعقله بطريقة مختلفة، أقل ثقة، لكن أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على التوقف قبل القرار، وهذا بحد ذاته قوة حقيقية

 

المشاهدات 70   تاريخ الإضافة 2025/12/18   آخر تحديث 2025/12/18 - 21:33   رقم المحتوى 1646
أخبار مشابهة
تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 524 الشهر 62533 الكلي 2195815
الوقت الآن
الجمعة 2025/12/19 توقيت الكويت
تصميم وتطوير